|


روشن.. فصل شيكسبيري جديد بين بلان وبيليتش

صراعٌ جسدي بين بيليتش وبلان في نصف نهائي مونديال 1998 أفضى إلى طرد الأخير ببطاقةٍ حمراءَ مباشرةٍ (أرشيفية)
الرياض ـ أسامة فاروق 2024.08.11 | 01:41 am

يقول البريطاني ويليم شيكسبير، الكاتب والشاعر الأيقوني، في مسرحيته الخالدة "عطيل": "أحيانًا يكون المكر أداةً أكثر قوةً من القوةِ ذاتها.. الأفعال الماكرة يُمكن أن تُخفي وراءها قوةً هائلةً، فتخدع العين، وتغيِّر مسار الأحداث، فيُصبح الماكر القادر على استغلال الثغرات، هو من يسيطر على الموقف".
وفي تلك المسرحية ذات الفصول الخمسة، مثَّل الضابط "ياجو" الشخصية الشريرة التي نجحت بمكرها في الوقيعة بين البطل عطيل، وزوجته ديدمونة، ابنة عضو مجلس الشيوخ، ودفعته إلى قتلها ظنًا منه بخيانتها، ثمّ انتحاره فيما بعد، ندمًا على ما اقترفته يداه.
ليس معروفًا إذا ما كان الكرواتي سلافن بيليتش، مدرب فريق الفتح السعودي، قرأ نص تلك المسرحية، أو شاهد لها عرضًا تمثيليًّا أم لا، فهو يشتهر بإتقان العزف على الجيتار، الغناء، إجادة أربع لغات، الإلمام بالقانون، وليس النهم في قراءة الأدب. ومع ذلك، مارس الكرواتي خداعًا، يحسده عليه ياجو الشرير، حَرَمَ نظيره الفرنسي لوران بلان، مدرب الاتحاد، من خوض أهم مباراةٍ عبر تاريخه الكروي.
في نوفمبر 1965، وُلِد بلان، وتزامنت بدايات إدراكه مع حالة ركودٍ كروي لفرنسا، حَلم الفتى، عامًا تلو الآخر، بالمساهمة في إصلاحها، ورفع أمَّته يومًا ما إلى منصات أكبر المحافل الدولية.
وحين كَبُر، عُرِف الفرنسي بشخصيته الرصينة الهادئة على المستطيل الأخضر، وفي الوقت ذاته كان مُدافِعًا ذا حضورٍ وهيبةٍ.. وأكسبه ذلك المزيج لقب "الرئيس" الذي أُطلق عليه، وأيَّده سجلٌّ انضباطي ناصعٌ، لم تعرفه البطاقات الحمراء حتى مع تجاوزه الـ 32 من عمره.
وفي 8 يوليو 1998، لمع طيف حلم الطفولة مجدَّدًا في عقل بلان مع خوضه موقعة نصف نهائي كأس العالم أمام المنتخب الكرواتي، "الحصان الأسود" لتلك البطولة التي استضافتها فرنسا.
تأخر أصحاب الدار بصدمة دافور سوكر، التي غصَّت حلوق آلاف المحتشدين في مدرَّجات ملعب "دو فرانس"، وتجلَّى الظهير الفرنسي ليليان تورام، عريس تلك الليلة، بهدفين، هما كل رصيده الدولي، وإلى هذا الحد كانت الأمور تسير على ما يُرام حتى الدقيقة 75 عندما نفذ زين الدين زيدان، نجم "الديوك"، ركلةً حرةً مباشرةً داخل منطقة جزاء الخصم، صاحبها سقوط بيليتش، مدافع كرواتيا، متلوِّيًا من الألم بعد احتكاك مع بلان.
غطى بيليتش جبهته بإحدى كفَّيه، وهوى، جثا على ركبتيه ممسكًا بوجهه، صراخه وهيئته أبرما حبل البطاقة الحمراء حول رقبة بلان.. ذلك المشهد بدا صادقًا بما فيه الكفاية كي يُطلق الإسباني خوسيه ماريا أراندا، حكم المباراة، قراره النافذ على الفرنسي، ويطرده للمرة الأولى في مسيرته.
في زمن ما قبل الـ "VAR"، كان الحكم هو سيِّد قراره، لا معقّب لحُكْمه، أما الإعادات المتلفزة، فكانت حصريةً للمشاهد فقط خلف الشاشات، وتِلك أثبتت آنذاك وجود صفعةٍ بالفعل من بلان تجاه بيليتش، لكنها ليست بالقوة التي صوَّرها الكرواتي عبر عرضه المسرحي المنفرد في قلب ضاحية سان دوني الباريسية.
عند تكرار الإعادة داخل استديو هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، بدا بيليتش للمحللين مثل طفلٍ، يتظاهر بالحُمّى للهروب من زيارةٍ مرعبةٍ إلى طبيب الأسنان.. حطَّ الذهول على الإسكتلندي آلان هانسن الذي وصف ما رآه بالعرض التمثيلي الأسوأ على الإطلاق، فيما قال زميله ومواطنه أليكس فيرجسون: إنَّ الكرواتي سقط "كما لو كان قُتل".
أمَّا بيليتش نفسه فرفض الإقرار بالذنب، مُصِرًّا: "لقد ضربني، ليس كمايك تايسون، لكنني تعرَّضت للضرب".
تمكَّن الفرنسيون من الحفاظ على تقدُّمهم "2ـ1" حتى نهاية المباراة، وعبروا إلى النهائي.. رفعوا تظلُّمًا لإلغاء البطاقة الحمراء، مستندين إلى "تمثيلية" بيليتش، لكنَّ طلبهم قوبل بالرفض، وهكذا حُرِم بلان من الظهور في النزال الأخير لبطولةٍ لطالما حلم بها، وقدَّم خلال منافساتها ما كان يستحق ختامًا يليق به.
لاحقًا، التقى الرجلان في مباراةٍ واحدةٍ فقط بعد تلك، حملت صفة التجريبية، وخاضاها بصفتهما مدربين لمنتخبي بلادهما، وليسا لاعبين، وانتهت بالتعادل السلبي.
قبل تلك المباراة التجريبية، التي تعود إلى 29 مارس 2011، سُئِل بلان، ربّما للمرة الأولى، عن الواقعة المونديالية، وأجاب بدبلوماسيةٍ قائلًا: "سأصافحه دون تفكيرٍ آخر. لقد صادفته من قبل، ولم تحدث مشكلةٌ. قال إنني كنت مخطئًا عندما طُرِدت، وهو محقٌّ. هذا الأمر أصبح من الماضي".
وفي الموسم الجديد، ينتظر الفرنسي مواجهتين أخريين مع بيليتش ضمن منافسات دوري روشن السعودي، أولاهما 22 نوفمبر المقبل، ويومها سيتضح إذا ما كانت الدبلوماسية مستمرةً، أم سيُبدي بلان رأيًا آخرَ حول مسرحية سان دوني.